recent
أخبار ساخنة

‏‏‏ حُلمٌ أحمرْ

الصفحة الرئيسية

‏‏‏ حُلمٌ أحمرْ


بقلم عيسى خليل


أتذكر في ذلك الشتاء من عام حزن مضى..
أيقضتني أمي صباحاً كعادتها لأذهب لشراء الخبز وأعود، فالدقيق قد نفذ منا منذ عقود، قمت مقبوراً في نعاسي تاركاً فراشي يغرق في مستنقع الدفئ، تحسست الطريق بعقلي فقط، وألقيت أول خطواتي على الارض الباردة وأنا أعض شفتاي، ولما لامست رجلي شيئاً تبصرته فكان جزمتي المخرقة من كل جانب، فلبستها بجهد، مزال بعض الوحل اللزج داخلها.....من كثرة اللعب تحت المطر...

أمي اين النقود ؟؟؟هاتها ودعيني اذهب،( لا اذكر اني كنت املك معطفاً، من غير تلك الكنزة الصوفية التي كنت اعرف بها - أكثر من شارب شارلي شابلن - طول الشتاء فمن كثرة الرقع كان اقراني الاطفال يلقبونني بــ "لُمْبَاصَة"...(في الجزاىر تعني رقعة القماش التي تخاط لتسد الثقب في اللباس)..

صاحت امي في وجهي( وين راح عقلك، قلت لك انها على الطاولة قرب الكانون ، اعرف ان عقلك مزال يتقلب في الفراش ياااراس...وتمتمت وسكتت)..

توجهت صوب الحدث اخذت تلك الدراهم المعدودات واحكمت عليهم في يدي، فالجيوب عندي مثل الثقوب السوداء في المجرة اذا رميت فيها امرا فمن ثامن المستحيلات ان تستقر في القاع...

خرجت كما هي عادتنا اجري وانط من بركة لاخرى، اركل حجراً حينا واتزحلق حينا آخر..
توجهت الى دكان عمي مسعود لان الاكرامية فيه اكثر من غيره...لكن وجدته مغلقاً، فقلت اكيد تسوق اليوم او منعته الامطار من الخروج، توجهت صوب دكان آخر ، واشتريت الخبز وقفلت راجعاً...

فبينما امشي واقضم من الخبز قضمات سبقتني وقع خطوات مهرولة لاكثر من شخص، وبعدها انعطفت صوب زاوية معينة، ادركت أن في الامر إنَّ وخطبا...
فقلت لما لا اذهب لأتلصص قليلاً...
تراءت لي حشود من الناس تتدافع فيما بينها منهم من يخرج واضعاً يده على عينيه ومن من يحوقل ومنهم من يسبح ومنهم من قال احضروا غطاء...
عجيب زاد الشغف في نفسي فانهمرت متسللاً بين الارجل في خناق معها لاصل مركز التجمع ولاحت لي اشياء غير واضحة، أخيراً رأيت..... هله إنه عمي مسعود ممدّ لماذا ينام هنا هل جن او ماذا...

ولما هممت بجحظ عيوني لارى ماشُكِل عليّ، هوت علي رقبتي قبضة ضخمة رفعتني علوا ومالقيت نفسي الا خارج الجمع متبوعا بضربات كف متتالية من خلف رقبتي الغضة...اذهب الى امك هيا ولاتعد هنا...هكذا صاح الصوت...

ولذتُ مسرعاً كالريح وحرقة الضربات الهبتني وادمعت عيوني...
عند باب المنزل تنهدت ودون سابق إنذار ظهر شريط امامي كانت خمس جثث ممدة اولها جثة عمي مسعود ملطخة ببعض الدماء...

دخلت بيتنا واتجهت مباشرة لغرفة الكانون حيث نرتشف قهوتنا الصباحية...وضعت الخبز جانباً ومددت رجلي الى موقد الحطب حتى اخذ سعرات من الحرارة تنسيني عضات البرد في الخارج...
دخلت علي امي هائجة : اين كنت يامنزوع العقل، الم اقل لك لاتلعب في الطريق، كي لا تتاخر!!!

فقلت: لا لم ألعب ولكن دكان عمي مسعود كان مغلقاً فذهبتُ الى دكان اخر، ولما رجعت وجدت عمي مسعود نائما في الطريق والناس حولة يبكون ويتكلمون بكلام لم اعرفه!!!

تجمدت امي في مكانها ثم هبت إلى وجهي تشده وتقرصة: اعد الكلام، هل تكذب عليّ او تستغفلني لتنسيني عن النقود الباقية هاااه!!!
فرددتُ من شدة الوجع : والله لا اكذب اييييييي .!!! الباقي هناك مع الخبز...

نهضت امي وهي تتمتم، وانا أدلك خدي من شدة الالم، بينما نحن كذلك ...دخل ابي مهرولاً كغير عادته، وتقاسيم وجهه يعلوها الذعر والخوف والحزن والغيظ، بكل لون...ابصرني بنظرة وقال: مالذي تفعله هنا يالله امشي الى فراشك، فقمت كالريح وانسحبت لأن ابي ليس من الذي يفاوض البراءة، لذا يجب ان اقوم وإلا وجدت نفسي كلوحة لبيكاسو تجمع خربشات مختلفة من أثر ضرب الحزام...فاللهم السلامة مع هذا الصباح...
وبما اني مختص في حبك الحيل، جمعت لعبي واندسست بقرب الغرفة استرق السمع وأفتت الكلمات واغرف مما سيتحدثان به..

قال ابي: اليوم وجد عمي مسعود، مقتولاً مع إبنيه فارس وخطيب، والحارسان سي بوركبة وبرابح، لم تُكتشف الجثث إلا صباحاً عند صلاة الفجر من طرف المارة، لقد تُركوا طيلة اليل هكذا في العراء والبرد والمطر، سبحان الله..
صاحت امي: معقول، قالها ابننا لمباصة ولكني لم أصدقه، كيف قتلوا ولمذا وأي انسان يفعل هذا الجرم الشنيع وكيف لم نسمع صُراخ او عويل او طلقات رصاص، انها الفانة( مصطلح يطلق على يوم القيامة مثل كلمة الفانية، اي انها نهاية الدنيا)...
رد ابي: وأين تسمعين والليلة كانت ممطرة بغزارة والرياح هوجاء، حتى اني نمت دون ان اسمع شخيرك وأنت قربي، فكيف بصوت الرصاص،

ردت امي: تراه من يكون، ومن يحمل الكره والغل لعمي مسعود، يالله لطفك..
رد ابي: انها مجموعة ارهابية يظهر انها كثيرة العدد، الجثث ليس فيها أثر للرصاص انما طعنات بالسكين وضربات بالسواطير، تعرفين أنَ عمي مسعود مجاهد فذ وهو اول من رفع راية الدفاع عن قريتنا، أكيد تمت تصفيته بسبب شرائه للبنادق وتوزيعها على السكان،

لا نستبعد وجود اشخاص متعاونين مع الإرهاب مندسين بيننا، لهذا الزمي لسانك صمتاً ولاتثرثري وإلا حملت رأسك بين يديك،...
كل تلك الكلمات وقعت بمسمعي، مالي وماللكبار ومشاكلهم وقوانينهم، مادخل لعبي وأسلحتهم...لم افكر في رائحة الموت، كان همي من سيعطيني الاكرامية والحلوى بعد عمي مسعود...

أنا برعم صغير لايعرف من هذه الأمور شيء، هل عاد المستعمر وقتل عمي مسعود، لم أعرف التاريخ والحرب بعد إلا من فلم " معركة الجزاىر" ...

لممتُ ألعابي واندسست في فراشي ولساني يقول "انا برعم صغير لا أعرف من الدنيا سوى أن أضع رأسي على الوسادة واسافر في أحلام طفولتي" قلتها واغمضت جفوني ورحت في سبات عميق .

Translate

google-playkhamsatmostaqltradent