بقلم سميحة البدوي
يقول الشيخ الطنطاوي : ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عن الحب والكتب مملوءة باشعارهم بالحب والغزل و وصف النساء .
ويقول أيضاً الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
ومن حرَّم الكلام في الحبّ ؟ ...
(والله الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة ، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي، ولوى الأرض في مسراها على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار، هو الذي ربط بالحب القلب بالقلب حتى يأتي الولد .
ولولا الحب ما التفَّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطف الظبي على الظبية في الكناس البعيد، ولا حنى الجبل على الرابية الوادعة، ولا أمدَّ الينبوع الجدول الساعي نحو البحر،
ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع، ولا كانت الحياة .
ما في الحب شــيء، ولا على المحبين سبيل، إنما السبيل على من ينسى في الحب دينه، أو يضيع خلقه، أو يهدم رجولته أو يشتري بلذَّة لحظة في الدنيا عذاب ألف سنة في جهنم .
أوَلــم يؤلف ثلاثة من علماء الإسلام، ثلاثة كتب في الحب، وهم : صاحب الأعلام، ومُصَنِّفُ المحلَّى، والإمام ابن الإمام؟
وقد أورد ابن القيم قصصاً لخلفاء النبي الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم جميعا، مما يبيّن أن هذه العاطفة ليست مما ينتقص من أقدار الناس في عهد الصحابة الأوائل، ثم علّق ابن القيم بعد إيراده عدداً من القصص التي حدثت في عهد الخلفاء: "وقد جاء عن غير واحد من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم أنهم شفعوا هذه الشفاعة" أي شفعوا للمحبين بين يدي أحبابهم .
قال الإمام ابن بطال في تعليقه على الحديث: "لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك أو خفي"، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فهذه شفاعةٌ من سيد الشفعاء من محب إلى محبوبه، وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجراً عند الله، فهي تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله، ولهذا كان أحب ما إلى إبليس وجنوده التفريق بين المحبين .
وكما تبين فإن الحب كان موجودا في عصر الصحابة الكرام والعصور التي تلته، ولم يجدوا غضاضة في التعامل معه، ولم ينظروا إليه بعين الشزر بل بعين الشفقة على أهله، وسعى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة للمحبين، وألّف فقهاء الإسلام فيه مؤلفات مستلقة، وذكروا مكانته في الشرع والدين والدنيا والحِس، وذكروا من قصص المحبين وما كان من أخبارهم، فلماذا اندثرت تلك المفاهيم عن الحب في عصرنا .
ولكن كيف أكتب عن الحب ؟
وهل تسع هذه المقالة حديث الحب؟
هل يوضع القمر في كف غلام ؟
هل يُصب البحر في كأس مدام ؟
أين التعبير الذي يترجم العاطفة ؟
وما هذه اللغات البشرية إلاَّ إشارات لخرســـان، وإلاَّ فأين الألفاظ التي تصف ألوان الغروب، ورجفات الأنغام، وهواجس القلوب ؟
إنها إذا لم تطمر الفحمة في بطن الأرض دهراً، لن تصبح ألماساً، وإذا لم تدفن الشهوة في جوف القلب عمراً، لا تكن حباً.
ونقول : قصة جميلة، ونغمة جميلة، ومنظر جميل، وطفل جميل، ما لدينا إلا هذا اللفظ الواحد، نكرره كالببغاوات نعبِّر به عن ألف جمال، ما منها جمال يشبه جمالاً، وأين الحب، وجمال القصة، وجمال المرأة..؟
أهو لون واحد، حتى نطلق عليه الوصف الواحد؟
لو حشدت مئة من أجمل الجميلات في مكان، لرأيت مئة لون من ألوان الجمال تشعر به، ولكن أين وصف هذا الجمال أنك لاتملك وصفها، إنَّ في هذه الأرض اليوم أربعة مليارات من العيون البشرية نصفها في أوجه الأنثيات، وما فيها عينان هما في شكلهما ووحيهما، وأثرهما في النفس، كعينين أُخريين. ثم إنَّ لكل عين حالات مختلفات لا يحصيها العد، ولغات لو كان يدركها البشر، لكان لكل عين قاموس،يترجم عنها، كالقاموس المحيط. وما عندنا لهذا كله، إلاَّ هذا اللفظ الواحد، نكرِّره ونعيد...
وكذلك الحبّ.
الحبّ عالم من العواطف، ودنيا من الشعور، فيها كل عجيب وغريب وليس لنـا إليه إلاَّ هذه القوة الضيِّقة، الكلمة القصيرة ذات الحرفين: الحاء والباء، الحاء التي تمثل الحنان، والباء التي تجعل الفم وهو ينطق بها، كأنه متهيِّئ لقبلة .
ونعيش حياتنا بأشكال مختلفة من الحب كحب كتاب من الكتب...وبين حب المجنون ليلاه، وحب العاشقين أنواع وأنواع من الحب ففي أيِّ الحب أتحدَّث؟
وكيف أجمع أطراف الكلام حتى أحشره في هذه الصفحات، ولو لبثتُ شهراً أكتب كل يوم فصلاً ما أتيت على ما في نفسي ولما وفيت موضوعي هذا حقهُ ؟
لقد كنت إذ أكتب في الحب، أغرف من نبعٍ في نفسي يتدفق، فجفَّ النبعُ حتى ما يبضُّ بقطرة، وخلا الفؤاد من ألم الهجر، وأمل الوصال، فالحب يصنع المعجزة التي تتقطَّع دونها آمال البشر، يُعيد للمحب ماضيات الأيام، ويُرجع له خوالي الليالي، ويَردّ الكهل فتى، والفتى طفلاً، وأين منِّي الحبّ؟
لم يعد ينقصني بعد سني هذا والتجربة إلاَّ أن يتعبَّدني الحب.....!
أعوذ بالله، من الجنون بعد العقل فاتركوني أيُّها العشَّاق، اتركوني فقد أنستني الأيام كيف يكون الغرام والحب
وماذا يبتغي العشَّق مني ومتى كان المحبون يحفلون في الدنيا، بغير المحبوب؟
لايعرف المحب إلاَّ ليلاه، يحيا لها، ويموت فيها، أكبرُ همِّه من العيش أن تعطف عليه بنظرة، أو تجود له ببسمة، أو أن تتلامس بيدِها يدهُ فتمشي في أعصابه مثل هِزَّة الكهرباء، ويسكرَ منها بلا دنٍّ ولا قدح، ويطرب بلا حَنْجَرة ولا وَتر، وغاية أمانيها من الدنيا أن تلقي برأسها على صدره، وأن يجمع فاهُ إلى فَيْها، في ذَهلةٍ لذَّة عميقة تحملها إلى عالم مسحور، يجتمع فيه الزمان كله، وتختصر فيه الأمكنة جميعاً، فتكون هذه اللحظة هي الأزل وهي الأبد، وهي الماضي وهي المستقبل...! أولئك هم العاشقون.
يبكون في الفراق من لوعة الاشتياق، ويبكون في الوصال من خوف الفراق، ويريدون أن يُطفئوا بالدمع حُرقَ القلب،يبكون لأنهم يطلبون ما لا يكون، فلا يصلون إليه أبداً .
ماذا يريد العاشقون...؟
يترك العاشق النساء جميعاً، ويهتم بها وحدها، فهو يريد أن تترك الرجال وتنظر إليه وحده، وأن تدع لأجله الدنيا وما فيها، وتغمض عينيها فلا ترى فيها غيرهُ، وتوصد أذنيها فلا تصغي إلى سواه، فهو يغار عليها من القريب والبعيد، ومن الشمس أن تبصرها، ومن الكأس أن تُقبِّل ثغرها .
سلوا الشعراءَ يحلفوا لكم، أنهم لا يطلبون إلاَّ نظرة تروي الغليل، وبسمة تطفئ الجوى، وأن يندمج بها، ويفنى فيها، فهو يعانقها والنفس بعدُ مَشُوقةٌ إليها، ويضمُّها ولا زال لديه إحساس أنه بعيداً عنها، وهو لو استطاع لعتصرها حباً، يمضي عمره بعيداً عنها، خالياً قلبه من حبّها، لا يدري بوجودها، ثم يراها مرة واحدة، ينظر إليها نظرة، فيحسب أنه قد عرفها من الأزل، وأنه لم يفارقها ساعة، ويقسم أنها ما خُلقت إلاَّ له، ولم يُخلق إلاَّ لها، ولا يعيش إلاَّ لها وبها، فهما روح في جسدين، ينظر بعينيها، ويسمع بأذنيها، وإن سُرَّت ضحك، وإن تألَّمت بكى، ويبتسم وهو في أعماق منامه إن رأت في منامها حلماً حلواً.
يتبع هواها على القرب و البعد، ويُؤثر رضاها في الغيبة والحضور ، يسهر الليل كله يتقلَّب على فراش السُهد من الشوق إليها، ويُعد الكلام الطويل ليقولهُ لها وأن تكلَّم لم ينطق بغير حديثها، وإن سكت لم يفكر إلا فيها، قد جهل كل الطرق إلا طريقها، فما يمشي إلا توجه إليها، علَّه ينشقَ الهوا الذي تستنشقه، ينام الناسُ ويسهرُ ليلَه، يُساير النجومَ في مسالكها، ولا يبصر سواها، يراها بين سطور الكتاب وفي الأحلام والرؤى وبين النجوم وفي نقاء السماء يراها في كل مكان .
إن هبَّ النسيم من نحو أرضها شجته النسائم، أو جرى السيل من جهتها أجرت دموعه السيول، أو رأى طيراً تمنَّى لو استعاره ليزورها، يحب لأجلها كل ما مكان منها وما اتصل بها، الرضاب الذي تنفر منه النفوس إن كان رضابها فهو خمر، وريح العرق التي تأنف منها الطباع إن كانت ريحها فهي عطر، والألم إن جاء منها كان لذة، والذمّ إن جرى على لسانها كان ثناء، والظلم إن وقع منها أشهى إلى قلبه من نيل الحقوق .
إن تبسمت له بسمة فكأن قد بسم له الدهر وواتَته الأماني، وإن كلَّمَته كلمة فكأن قد صبَّت في روحه الحياة، وإن وعدته بقبلة عاش دهره يذكر الوعد ويتعلَّل بذكراه، عافَ لحبها طعامه وشرابه، وهجر راحته ومنامه، والمجد يزهد فيه ولا يباليه، والدين يتركه والمال لا يفكر فيه، وإن نظم أو كتب كلماته فلها وحدها وحتى لو كانت لا تدركها ولا تستطيع أن ترقى إلى سمائه، وإن طلب العظائم فكي يَعظُم في عينها.
إن سعد الناس بالغنى والجاه لم يُسعده إلاَّ لقاؤها، وإن حرص العقلاء على رضا الله لم يحرص إلاَّ على رضاها، وإن افتخروا بالصحة والقوَّة، فخر بالمرض والضعف والهزال، يرى القصر إن خلا منها سجناً، والقفر إن كانت فيه روضة، واليوم إن واصَلته لحظة، واللحظة إن هجرته دهراً، يرى الشمس من هجرها سوداء مظلمة، والليل البهيم من وصالها شمساً مشرقة .
تُؤرقه ويرجو لها طيب المنام، وتُسقمه ويسأل لها البعد عن الأسقام، وهو القتيل الذي بكي من حبها، فهي شفاؤه وهي داؤه، وهي نعيمه وهي شقاؤه، وهي جنتهُ وهي ناره، يدعوا إلى الله أن تلتقي الروحان ويتوحَّد الاثنان، يعود بالذكرى إليها يفتِّش في زواياه عن هذه الأمنيات يستشِفُّ بالخيال ما فيه،فلا ينجلي له آت، ولا يثبت له حاضر .
وهذا هو دأب العاشقين، إنهم يئسوا من أن يساعدهم الناس على بلواهم، فتركوا دنيا الناس وعاشوا وحدهم في دنياهم، هاموا على وجوههم يبحثون عن قطع قلوبهم التي خلَّفوها في مدارج الهوى، وملاعب الصبا، وتحت الأطلال، يسائلون الحفر والحجارة، ويناجون الأحلام والأوهام.